مما حفظناه عن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله أن علينا العمل وعلى الله النتيجة،بيد أن هذه القاعدة السليمة شوه معناها وأصبحت ذريعة للتسكع الفكري ورداءة العمل بسبب الوقوف عند ظاهرها وعدم التعمق فيها بناء على أصول الشريعة ومحكمات الدعوة ... تدخل جماعة ما معترك الدعوة والحركة بقصد لا يمتد إليه الشك ولكن لا يصاحبه علم غزير بالإسلام وبالواقع ونقطع أشواطا غالبا ما تكون فيها المكاسب ضئيلة في مقابل تضحيات ضخمة بالوقت والجهد والمال والأرواح ،وأثناء الرحلة وبعد تجربة مريرة لا تجد الجماعة ما تبرر به ضآلة النتائج الا ترديد تلك العبارة فتخرس الألسنة عن كل مراجعة للنفس أو نقد بناء مهما كان مصدره ،وتصد دونه الآذان.
فالعبارة غدت إذاً ذريعة للتمادي في منهج و سير ارتجالي وقد وجد تشبث عجيب بها عند أكثر الفصائل الإسلامية التي تعتمد على السذاجة بدل الذكاء والسطحية بدل التعمق بحيث تفر من عالم الشهادة مرتكزة على عالم الغيب وما ذاك في الحقيقة سوى تهرب من المسؤولية.
ما معنى إذاً أن علينا العمل وعلى الله نتيجة؟إن في المعادلة طرفين هما الداعية المسلم والله سبحانه وتعالى،وإذا كان من المتفق عليه أن الله لا يخلف وعده فيجب أن نلتفت إلى الطرف الآخر ليفي هو أيضا بوعده،وهنا يكمن الخطأ الذي أصاب الأفهام :فكيف نطلب جراء المؤمنين الأبرار إذا لم نتصف بصفاتهم؟وبعبارة أدق:هل يثمر العمل نتيجة طيبة ولو كان متعسفا مخلخلا ناقصا بحجة أنه عمل مخلص؟للسذج الذين يظنون ذلك نقول انظروا في أصول الدعوة تجدوا أن العمل المقبول يشترط فيه توفر الإخلاص والصواب"الذين آمنوا وعملوا الصالحات"-"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"-"ليبلوكم أيكم أحسن عملا".. إلى درجة أن الله تعالى اختفى بالصواب فذكره مقدما على الإخلاص للتنويه بمكانته ووجوبه فقال:"فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا".
وحتى ولو أعوزتنا النصوص فإن المنطق السليم يقتضي أن العمل المتقن ينتج ثمارا طيبة وهي سنة من سنن الآفاق والأنفس أي السنن الكونية والاجتماعية،ومفهوم المخالفة أن العمل الناقص القاصر الهزيل يأتي بنتائج ضعيفة مشوهة
أما الإخلاص فهو شرط القبول وليس شرط النجاح ما لم يعضده الصواب أي الإتقان ويمكن أن يجبر الإخلاص الهفوات البسيطة والتقصير الطفيف لكنه لا يجبر الطامات ولا الانطلاقة الخاطئة ولا السير الارتجالي على غير هدى من سنن الله الواضحة فالنتائج مرهونة بالمقدمات إيجابا وسلبا ولهذا قال الإمام ابن عطاء:"من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرفة"والبداية المحرقة هي المبنية على أسس ثابتة المتبعة لمنهج صحيح وأسلوب عملي دقيق.
في ضوء هذا يتضح معنى كلمة الإمام الشهيد،فمن أراد أن يحقق له الله النتيجة المرجوة فعليه أن يقدم عملا متقنا أما الاكتفاء بالبذل على هدى وعلى غير هدى وانتظار النتيجة في شكل ثواب أخروي فما نظن أن الإسلام يقبله فضلا عن أن يأمر به،والحقيقة أن أفرادا وجماعات تغلب عواطفهم علمهم يفسرون كل شيء تفسيرا غيبيا محضا وإذا كان المسلم لا ينكر الغيب فهو يعلم أنه منتدب لإصلاح عالم الشهادة فإذا لم يتم له ذلك فينبغي أن يتهم نفسه على التقصير ربما في النية وخاصة في الوسيلة لا أن يكل الأمر إلى الغيب كأنه واثق من حصول الثواب وهذا لا يحصل إلا بالإخلاص والصواب معا ،ثم من تمام فرحة الداعية أن يرى ثمرات عمله وكلما تعطل ذلك راجع قلبه وراجع أساليبه ووسائله،وقد التبس الأمر على بعض الطيبين فجعلوا من قصة نوح عليه السلام مع قومه -وهي استثناء كما يعرف من تدبر القرآن - ذريعة يبررون بها إخفاقهم في الدعوة والحركة وكان حريا بهم أن يسلكوا كل طرق التبليغ كما فعل نوح ثم أن يتعظوا بغيره من الأنبياء الذين هدى الله بهم أمما لا تحصى.
فالمسألة تكمن في تقديرنا في الحرص لا على البذل فحسب وإنما على البذل المجدي في إطار تخطيط علمي راق وفق منهجية أصيلة واقعية مدروسة تبلورها النصوص والتجارب القريبة..والبعيدة..فهذا يكفينا ان شاء الله التضحيات الضخمة من أجل نتائج هزيلة ونحن نفر من الحقيقة ونلقي اللائمة بلسان الحال وبطرق ملتوية على القدر بدل أن نحاسب أنفسنا بحيث تتكافأ التضحيات والنتائج،أما إذا تمادينا في حصر القضية في الثواب الأخروي فالأحسن لنا الانسحاب الفعلي من عالم الشهادة وتركه لعباد الرحمن"أولي الأيدي والأبصار" الذين يحدثون التغيير باعتبارهم جندا من جند الله وأدوات للأقدار.